في ليلة لا تسمع فيها
إلا صوت الرعد القاصف ، وهيجان الريح المرعب . في ليلة انطفأت فيها الأنوار
وأظلم البيت وانعدمت الكهرباء . في ليلة ممطرة باردة . في ليلة اسودَّ
ليلها وغابت نجومها . في ليلة حرك رعبها قلبي ، وهز بردها جسمي ، لا أرى مد
يدي ، ظلام حالك وجو مرعب ، أغلقت شباك غرفتي لأقلل وحشتي ، أنفاسي تتقطع
في صدري ، لا أحد حولي ، ولا أمي ولا أبي ، ولا أختي ولا أخي ، وحيداً
فريداً مرعوباً خائفاً ، لا أستطيع فتح عيني خوفاً من مصير لا أعلمه
ينتظرني .
وفجأة وإذا بخفقات تزيد ، ونبض دمي يعلو ، فما شعرت إلا وشيء يكتم أنفاسي ، صحت بأعلى صوتي ، ضاق نَفَسي
، بردت أطرافي ، هملت يداي ، ناديت يا إخوتي أصدقائي أغيثوني ، ما هذا
الذي داهمني آتوني بطبيبي ، بل بصديقي وأخي وحبيبي ، لكن واحسرتاه ..
واحسرتاه ... أصيح بأعلى صوتي فلا أسمع سوى صدى ندائي يتردد في أرجاء غرفتي
المظلمة .
قلبي يخفق بأعجوبة ، كأني أتنفس من خرم إبرة .
أيقنت عندها أنه جاء يطلبني ، توسلت إليه ليمهلني لينظرني ولو ساعة من نهار
، لكن دون جدوى ، كان شديداً غاضباً مني ، عيناه تحكي حقده عليَّ ، رفض
توسلي إليه ، قال بأعلى صوته : ألم تعرفني ؟ ألم تسمع بي ؟ قلت : بلى ...
أنتَ من جاء ليغمض عيني ويلفني بأكفاني ، بل ويبعدني عن أهلي وأحبابي ، أنت من جاء ليخطفني من بين أشرطتي وقنواتي ، ويدمر تسليتي بألعابي .
ردَّ بصوت مخيف : إنك راحل ، وإلى مطار تعرفه مسافر . زادت آلامي ، وحُبست في جوفي أحرفي قبل كلماتي .
انتهرني قائلاً لِمَ تنساني ، لِمَ تنساني ....
ارتجت كلماتي وخانني لساني ، ما فكرت يوماً أنك تطلبني ، ما فكرت يوماً أنك تطرق بابي لتعيدني لصوابي ، وتغلق صفحة حياتي ، وتقطع استمتاعي بشبابي .
عندها تذكرت أنها صيحات فراق ، وآلام وداع ، أودع الدنيا راحلاً إلى مطار
أرضه غير مرصوفة ، وسادته التراب ، ومستقبلوه الدود ، وغطاؤه اللحود ، برده
شديد يفتك العظام ، يقطع الأوصال ، يمحو الملامح والشباب ، وتسيل منه
العينان على الخدان ، ويتدلى منه اللسان ، نداؤه لا يُسمع ، وتوسله لا
يُجاب ، إذاً قد أصبح بينه وبين الدنيا حجاب ...
صحتُ بأعلى صوتي : آهٍ ... لو أعود .
سحبت جسمي وأسندت ظهري على جدار غرفتي المرعب وأنا أشعر بالوهن والمرض
يدبُّ إلي . هل هو الموت؟ هل انتهت أيامي وجاء لقائي بربي ؟ حزنت ... بكيت
... رفعت صوتي , أيقنت أن لا أحد يسمعني . شبح الموت يتراءي أمام ناظري ,
تدحرجت دموعي على خدي , خوفاً وهلعاً أن أفارق الحياة وأنا في ريعان الشباب
. آهات وآلام تحفز دموع الندم , لتقول لي:كم من متعة
استمتعتها ,وشريط غناء سمعته , وصلاة تكاسلت عنها , ارتعش لساني وخرجت
كلماتي : بأي وجه أقابل ربِّي ؟ كيف أعتذر وقد خنته ؟
هل سيعفو عني أم سيلقي بي غير مبالٍ إلى النار؟ الأسئلة الملحة تطاردني , والحسرة والندم ينهشان قلبي . سأهرب ولكن إلى أين ؟
الدنيا كلها لن تخفيني ممن يطاردني , لساني يلهث يردد رحماك ربِّي ...
إلهي أتوسل إليك أمهلني لازلت في ريعان شبابي , سفينة حياتي تتحطم على صخرة
النهاية . الموت يدكها .. يحطمها .. يكسرها بشراسة كأن بينه وبينها عداوة
... رحماك ربي .
وما هي إلا لحظات وإذا بباب البيت يفتح مبشراً بوصول أهلي , فرحت فرحاً لا
يوصف , استجمعت أنفاسي ودَّبت الحياة لأعضائي , تحرك لساني , ناديتهم بأعلى
صوتي , وهو يطاردني جاثم على صدري , أمي الحبيبة أدركيني ... حبيبك يغادر الدنيا , تودع آخر أنفاسه الحياة . أمي الحبيبة أدركيني ... حبيبك أنفاسه محجوزة , ومن الموت مفزوعة , أمي الحنون أين أنتِ عني ؟
أين حنانك مني؟ بل أين حبٌّك لي؟ أماه امنعيني ومن الموت أجيريني .. حبيبك
يموت ... أماه مُدِّي لي يدك اعلق فيها آخر أنفاس الحياة . أماه مُدِّي لي
يدك أقبِّلها .. أودعها ... أشمّ فيها رائحة المحبة . أمي الحبيبة سامحيني كم تطاولت يوماً عليك .
أماه إنها لحظات الوداع وزفرات الفراق . دنت مني أمي ودموعها تكاد تغرقني .
نادتني حبيبي حياتي , أفديك بنفسي , وضعتْ رأسي علي حجرها , وأمسكت يدي
بيدها , بكاؤها يقطع قلبي ويزيدني ألماً فوق ألمي . صحت : آه
آه يا أماه من شيء يقطع قلبي , يمزق أعضائي , يجري مع دمي , بل يا أماه
يكسر عظامي .. آه لو تعلمين .. إنه ألم شديد وفراق إلى مدى بعيد .. زاد
بكاؤها ورفعت يديها إلى السماء تدعو إلهي : أمهل حبيبي ليتوب , ليعود . إلهي لا تخيب رجائي فيك .
مددت يدي لأختي ... لأخي ... لأبي ... تعلقتُ بهم .. وداعاً أحبَّتي.. علا بكاؤهم , وزاد أساهم,
يرون آلامي لا تُوصف , تعجز عن وصفها الأقلام , ويقف عنها عاجزاً الكلام
.. جبال على صدري , وهموم تثقلني .. إلهي من يفرِّج همي وينفِّس كربتي ..
اشتد نزعي , ضاق والله بها صدري .. ينادونني قل لا إله إلا الله .
وذاك يقول احملوه للمستشفى لازال فيه حياة . حُملت للمستشفى, واستقبلت
بحفاوة , ووضعت بين الأجهزة في غرفة الإنعاش .. هذا بإبرة وذاك بأكسوجينه ,
وآخر ينعش بضربات القلب . حاولوا ثم حاولوا . لكن لم يستطيعوا انتشالي من
بين فكي الموت, لقد شدَّ عليَّ بأسنانه وشدَّ علي بأضراسه .
وبعد ساعات حار الطبيب بعلمه , وانثنى منكساً رأسه معلناً أمام الموت فشله
. خرج لأهلي, دموعه على خده قابضاً يده . تعالوا لتحضروا وفاته . دخلوا
الغرفة كلهم , ولساني يهذي بأمور لا أشعر بها . حكيت لهم قصة حياتي , بشريط
مسجل على لساني , كنتُ مظهراً التزامي وأمامهم
مبتعداً عن الملهيات والأغاني , وإذا بهم يتفاجئون بالحقيقة المرَّة .
انكشف الغطاء وبدأ الزيف والافتراء . حقيقة مُرة وكذبة كبيرة , عشت فيها
سنين . تذكرت عندها كلاماً لسفيان الثوري : أكبر خيانة أن يخونك
لسانك عند الموت فلا ينطق بها . أتعرف ما هي ؟ إنها الشهادة , وفجأة تجمع
الأطباء حولي واشتد نزعي , وصِحْتُ بأعلى صوتي : آه لو أعود .من منكم
يزيدني من عمره ساعة .. دقيقة .. ثانية ؟
لأكتشف الحقيقة وأحطم زيف الكذبة ,كل منهم ودمعه ينهال على خديه قابضاً من الحزن يديه .
وفجأة وإذا بأجهزة الأطباء تضطرب وتخفق بسرعة , هوت كلها إلى مؤشر الصفر
معلنة النهاية , فدقت أجراسها خطراً , وعلا صوتها منذراً , وانطفأت كلها
وفاضت معها روحي . ورأى الكل مصرعي بل نهاية حياتي وبداية قيامتي
، خرج الجميع من الغرفة وتركوني وحيداً فريداً في غرفة باردة , تركوني مع
أيدٍ غريبة تقلبني وتلفني بأثواب . ربطوا بها يدي , وشدوا بها رأسي ,
واستدعوا موظف الثلاجة ليحملني على عربته وحيداً لا مرافق لي ، تركني أهلي
كأنهم خائفون مني مستوحشون من حالي ، لا جرأ أحد منهم على لمسي ، أدخلت
الثلاجة وفتحت لي أبوابها , حملني اثنان وعن العربة أنزلوني , وفي الدرج
الأول تركوني , مكان ضيق كأنه لحد .
أغلقوا علي إغلاقاً محكماً , ثم أقفلوها خارجين و إلي أعمالهم عائدين ,
أطفئوا الأنوار , زاد برد الثلاجة , كل ما فيها أناس صامتون , جيران لا
يتكلمون, لا نفس فيسمع , ولا داعي فيجاب ,كنت أمر بقرب هذا المكان لا
أستطيع النظر إليه خوفاً منه وها أنا اليوم أودع فيها , يالها من نهاية ,
وما هي إلا لحظات وإذا بأبواب تُفتح , ضجيج وأصوات عالية , ومن بينهم صوت
يقول : أنا أغسله , وآخر أنا أكفنه .
أخرجوني من درجي ووضعوني على مكان غسلي , كأنهم خائفون مني , خلعوا ملابسي وستروا عورتي , صبوا
الماء فوق رأسي وغسلوني , قرَّبوا الأكفان ونشروها ثم طيَّبوها , حملت بين
أيديهم ألقوني بينها , بدأوا بتغطية وجهي , أوثقوني بالأربطة , ما أشده
وأظلمه من غطاء , قبَّلني أبي وأخي , واستدعيت أمي فلم تتمالك نفسها , حنت رأسها عليَّ وقبَّلتني .
تركوني في ناحية المسجد وحيداً , انتهت الصلاة وتداعى أحبتي : إلينا بعبد
الله فاحملوه وللصلاة قرِّبوه , حُملت بين الأيدي , ورفعت على الأعناق صلى
الناس وخرجوا.
حُملت على الأكتاف تتبعني الدعوات : اللهم ثبَّته عند السؤال , أين أصبح
أصحابي يا أحبابي , دعوني معكم ولو ليلة , أترمون بي ؟! قد كنت لكم خادماً
أخاً صادقاً , أفي حفرة تودعونني ؟ ضاعت هداياي لكم وخدماتي ,كم ليلة
سامرتكم أضحكتكم صدق فيَّ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم , حديث قد طرق
سمعي لكني لم أعره بالاً , تذكرت قوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا وضعت
الجنازة واحتملها على أعناقهم , فإن كانت صالحة قالت : قدِّموني قدَّموني ,
وإن كانت غير صالحة قالت : يا ويلها أين تذهبون بها , يسمع صوتها كل شيء
إلا الإنسان ولو سمعها لصُعق )) [ رواه البخاري والنسائي والبيهقي وأحمد ] .
تنادي جنازتي : دعوني ... دعوني ... أعرف ما أمامي , إنها أشرطتي وأفلامي, أنزلوني ... أنزلوني .
أما تسمعون ندائي ... لا أحد يبالي ... وضعوني على شفير القبر وحافته , أرى قبري يُحفر أمامي . يا أبي أتحفر لي لتواريني ،
أنظر إلي قبري كأني أعرفه موحش , مظلم , مقفر. آه ... يا إلهي ما أوحشة ,
طين وتراب , صخور كبيرة تكتم الأنفاس ، هاهم انتهوا وللطين قربوا ,
نادوا إلينا بالجنازة , حملها الأقربون مسرعين ينتحبون , بكاؤهم يزيد
يعلمون أني مغيب إلى مدى بعيد , أنزلوني , استقبلني أبي وأخي الأكبر ,
وسدُّوا لي التراب , وضعوا جنبي بين اللحود . عندها ودَّعت الدنيا . وداعاً
أيتها الشمس , آه ... أيها الظلام , حلوا رباط أكفاني , قبَّلني أبي ودعا
لي , نادوا باللحود حجارة كبيرة وضعوها فوق رأسي على رجلي وغطوا جسدي ,
أصيح فلا مجيب , أيها الناس أغلقتم منافذ الهواء , فإذا بالنداء لا يقرع
إلا آذاناً صماء . زادوا علي التراب , تراب فوق تراب , الكل يحثو حتى ردموا
الحفرة وأغلقوا معها آخر أنفاس الحياة , تهيأوا للرحيل..
ذهبوا وأبقوني وحيداً , ذهبوا وتركوني أسامر الدود , استقبلني القبر بضمته , واللحد بغمته , أخذ التراب ينهال على وجهي ,
كفى أيها المستقبلون, أهكذا تستقبلون ضيفكم: ردَّ القبر بصوت مرعب : أما
سمعت في الدنيا ندائي (( ما من يوم يطلع فجره إلا وينادي القبر : أنا بيت
الظلمة , أنا بيت الوحشة , أنا بيت الدود , اسمع إلى ترحيبي : إذا وُضع
العبد الفاجر في جوفي قلت له : لا أهلاً ولا مرحباً , أما والله قد كنت
أبغض من يمشي على ظهري , إلي فقد وليتك اليوم فسترى صنيعي بك . فأضمه ضمة
حتى تختلف أضلاعه , ثم يوكل به سبعون تنيناً ينهشونه ويخدشونه حتى يفضى به
إلى الحساب )) [ كما في سنن الترمذي ] .
هذا هو ندائي أما سمعت به ؟! نعم قد سمعته وطرق أذني , ولكني تباعدت اللقاء
بل تناسيته . أمهلني أيها القبر لأعود . انتهرني قائلاً : تعود , كلا قد
فات الآوان .
عندها دبَّ الدود على وجهي وبدأ يأكل أكفاني , صحت بأعلى صوتي : آه . آه لو أعود . آه . آه لو أعود .
استيقظ أبي وفتح باب غرفتي : بُنيّ ما بك ؟ أبي ... أمي ... آه لو أعود .
بنيَّ من أين تعود ؟ أنت في البيت , تعلقت به يا أبي أنقذني , أبعد الدود عن وجهي.
بنيَّ لا تخف أنت في بيتك , تجمع إخواني أنا في صيحة واحدة : آه لو أعود . أضاءوا الأنوار وإذا بي بينهم ..
تلمست أيديهم , عندها أدركت أنني لازلت على قيد الحياة .
آه يا لله ! يا له من حلم ... ما أبشعه , بل وأوحشه , قد هزَّ كياني أرعبني
ومن الآخرة أدناني , جلست على فراشي , ها أنت يا عبد الله في مهلة إذاً
فاعمل .
تذكرت الربيع بن خيثم وقبره : حفر له قبراً داخل بيته فكان إذا مالت نفسه
إلي الدنيا نزل في قبره , وإذا ما رأى ظلمة القبر ووحشته صاح { رَبِّ
ارْجِعُونِ } فيسمعه أهله فيفتحون له , وفي ليلة نزل قبره وغطى بغطائه .
فلما استوحش داخله نادى { رَبِّ ارْجِعُونِ } فلم يسمع له أحد . وبعد زمن
طويل , سمعته زوجته ، فأسرعت إليه وأخرجته . فقال عند خروجه : ( اعمل يا
ربيع قبل أن تقول رب ارجعون فلا يجيبك أحد ) [ صلاح الأمة في علو الهمة ]
عرفت أنه لا طريق للنجاة إلا طريق الاستقامة .
كسرت أشرطتي , وحرقت مجلاتي , جددت استقامتي البالية , قطعت حبل كل ودٍّ بزملائي القدامى, واتجهت إلى ربي : إليك ربي , إليك ربي .
فكلما نويت بمعصية تذكرت تلك الرحلة التي رحلتها , فوالله بعدها ما هممت بمعصية ..
إلا صوت الرعد القاصف ، وهيجان الريح المرعب . في ليلة انطفأت فيها الأنوار
وأظلم البيت وانعدمت الكهرباء . في ليلة ممطرة باردة . في ليلة اسودَّ
ليلها وغابت نجومها . في ليلة حرك رعبها قلبي ، وهز بردها جسمي ، لا أرى مد
يدي ، ظلام حالك وجو مرعب ، أغلقت شباك غرفتي لأقلل وحشتي ، أنفاسي تتقطع
في صدري ، لا أحد حولي ، ولا أمي ولا أبي ، ولا أختي ولا أخي ، وحيداً
فريداً مرعوباً خائفاً ، لا أستطيع فتح عيني خوفاً من مصير لا أعلمه
ينتظرني .
وفجأة وإذا بخفقات تزيد ، ونبض دمي يعلو ، فما شعرت إلا وشيء يكتم أنفاسي ، صحت بأعلى صوتي ، ضاق نَفَسي
، بردت أطرافي ، هملت يداي ، ناديت يا إخوتي أصدقائي أغيثوني ، ما هذا
الذي داهمني آتوني بطبيبي ، بل بصديقي وأخي وحبيبي ، لكن واحسرتاه ..
واحسرتاه ... أصيح بأعلى صوتي فلا أسمع سوى صدى ندائي يتردد في أرجاء غرفتي
المظلمة .
قلبي يخفق بأعجوبة ، كأني أتنفس من خرم إبرة .
أيقنت عندها أنه جاء يطلبني ، توسلت إليه ليمهلني لينظرني ولو ساعة من نهار
، لكن دون جدوى ، كان شديداً غاضباً مني ، عيناه تحكي حقده عليَّ ، رفض
توسلي إليه ، قال بأعلى صوته : ألم تعرفني ؟ ألم تسمع بي ؟ قلت : بلى ...
أنتَ من جاء ليغمض عيني ويلفني بأكفاني ، بل ويبعدني عن أهلي وأحبابي ، أنت من جاء ليخطفني من بين أشرطتي وقنواتي ، ويدمر تسليتي بألعابي .
ردَّ بصوت مخيف : إنك راحل ، وإلى مطار تعرفه مسافر . زادت آلامي ، وحُبست في جوفي أحرفي قبل كلماتي .
انتهرني قائلاً لِمَ تنساني ، لِمَ تنساني ....
ارتجت كلماتي وخانني لساني ، ما فكرت يوماً أنك تطلبني ، ما فكرت يوماً أنك تطرق بابي لتعيدني لصوابي ، وتغلق صفحة حياتي ، وتقطع استمتاعي بشبابي .
عندها تذكرت أنها صيحات فراق ، وآلام وداع ، أودع الدنيا راحلاً إلى مطار
أرضه غير مرصوفة ، وسادته التراب ، ومستقبلوه الدود ، وغطاؤه اللحود ، برده
شديد يفتك العظام ، يقطع الأوصال ، يمحو الملامح والشباب ، وتسيل منه
العينان على الخدان ، ويتدلى منه اللسان ، نداؤه لا يُسمع ، وتوسله لا
يُجاب ، إذاً قد أصبح بينه وبين الدنيا حجاب ...
صحتُ بأعلى صوتي : آهٍ ... لو أعود .
سحبت جسمي وأسندت ظهري على جدار غرفتي المرعب وأنا أشعر بالوهن والمرض
يدبُّ إلي . هل هو الموت؟ هل انتهت أيامي وجاء لقائي بربي ؟ حزنت ... بكيت
... رفعت صوتي , أيقنت أن لا أحد يسمعني . شبح الموت يتراءي أمام ناظري ,
تدحرجت دموعي على خدي , خوفاً وهلعاً أن أفارق الحياة وأنا في ريعان الشباب
. آهات وآلام تحفز دموع الندم , لتقول لي:كم من متعة
استمتعتها ,وشريط غناء سمعته , وصلاة تكاسلت عنها , ارتعش لساني وخرجت
كلماتي : بأي وجه أقابل ربِّي ؟ كيف أعتذر وقد خنته ؟
هل سيعفو عني أم سيلقي بي غير مبالٍ إلى النار؟ الأسئلة الملحة تطاردني , والحسرة والندم ينهشان قلبي . سأهرب ولكن إلى أين ؟
الدنيا كلها لن تخفيني ممن يطاردني , لساني يلهث يردد رحماك ربِّي ...
إلهي أتوسل إليك أمهلني لازلت في ريعان شبابي , سفينة حياتي تتحطم على صخرة
النهاية . الموت يدكها .. يحطمها .. يكسرها بشراسة كأن بينه وبينها عداوة
... رحماك ربي .
وما هي إلا لحظات وإذا بباب البيت يفتح مبشراً بوصول أهلي , فرحت فرحاً لا
يوصف , استجمعت أنفاسي ودَّبت الحياة لأعضائي , تحرك لساني , ناديتهم بأعلى
صوتي , وهو يطاردني جاثم على صدري , أمي الحبيبة أدركيني ... حبيبك يغادر الدنيا , تودع آخر أنفاسه الحياة . أمي الحبيبة أدركيني ... حبيبك أنفاسه محجوزة , ومن الموت مفزوعة , أمي الحنون أين أنتِ عني ؟
أين حنانك مني؟ بل أين حبٌّك لي؟ أماه امنعيني ومن الموت أجيريني .. حبيبك
يموت ... أماه مُدِّي لي يدك اعلق فيها آخر أنفاس الحياة . أماه مُدِّي لي
يدك أقبِّلها .. أودعها ... أشمّ فيها رائحة المحبة . أمي الحبيبة سامحيني كم تطاولت يوماً عليك .
أماه إنها لحظات الوداع وزفرات الفراق . دنت مني أمي ودموعها تكاد تغرقني .
نادتني حبيبي حياتي , أفديك بنفسي , وضعتْ رأسي علي حجرها , وأمسكت يدي
بيدها , بكاؤها يقطع قلبي ويزيدني ألماً فوق ألمي . صحت : آه
آه يا أماه من شيء يقطع قلبي , يمزق أعضائي , يجري مع دمي , بل يا أماه
يكسر عظامي .. آه لو تعلمين .. إنه ألم شديد وفراق إلى مدى بعيد .. زاد
بكاؤها ورفعت يديها إلى السماء تدعو إلهي : أمهل حبيبي ليتوب , ليعود . إلهي لا تخيب رجائي فيك .
مددت يدي لأختي ... لأخي ... لأبي ... تعلقتُ بهم .. وداعاً أحبَّتي.. علا بكاؤهم , وزاد أساهم,
يرون آلامي لا تُوصف , تعجز عن وصفها الأقلام , ويقف عنها عاجزاً الكلام
.. جبال على صدري , وهموم تثقلني .. إلهي من يفرِّج همي وينفِّس كربتي ..
اشتد نزعي , ضاق والله بها صدري .. ينادونني قل لا إله إلا الله .
وذاك يقول احملوه للمستشفى لازال فيه حياة . حُملت للمستشفى, واستقبلت
بحفاوة , ووضعت بين الأجهزة في غرفة الإنعاش .. هذا بإبرة وذاك بأكسوجينه ,
وآخر ينعش بضربات القلب . حاولوا ثم حاولوا . لكن لم يستطيعوا انتشالي من
بين فكي الموت, لقد شدَّ عليَّ بأسنانه وشدَّ علي بأضراسه .
وبعد ساعات حار الطبيب بعلمه , وانثنى منكساً رأسه معلناً أمام الموت فشله
. خرج لأهلي, دموعه على خده قابضاً يده . تعالوا لتحضروا وفاته . دخلوا
الغرفة كلهم , ولساني يهذي بأمور لا أشعر بها . حكيت لهم قصة حياتي , بشريط
مسجل على لساني , كنتُ مظهراً التزامي وأمامهم
مبتعداً عن الملهيات والأغاني , وإذا بهم يتفاجئون بالحقيقة المرَّة .
انكشف الغطاء وبدأ الزيف والافتراء . حقيقة مُرة وكذبة كبيرة , عشت فيها
سنين . تذكرت عندها كلاماً لسفيان الثوري : أكبر خيانة أن يخونك
لسانك عند الموت فلا ينطق بها . أتعرف ما هي ؟ إنها الشهادة , وفجأة تجمع
الأطباء حولي واشتد نزعي , وصِحْتُ بأعلى صوتي : آه لو أعود .من منكم
يزيدني من عمره ساعة .. دقيقة .. ثانية ؟
لأكتشف الحقيقة وأحطم زيف الكذبة ,كل منهم ودمعه ينهال على خديه قابضاً من الحزن يديه .
وفجأة وإذا بأجهزة الأطباء تضطرب وتخفق بسرعة , هوت كلها إلى مؤشر الصفر
معلنة النهاية , فدقت أجراسها خطراً , وعلا صوتها منذراً , وانطفأت كلها
وفاضت معها روحي . ورأى الكل مصرعي بل نهاية حياتي وبداية قيامتي
، خرج الجميع من الغرفة وتركوني وحيداً فريداً في غرفة باردة , تركوني مع
أيدٍ غريبة تقلبني وتلفني بأثواب . ربطوا بها يدي , وشدوا بها رأسي ,
واستدعوا موظف الثلاجة ليحملني على عربته وحيداً لا مرافق لي ، تركني أهلي
كأنهم خائفون مني مستوحشون من حالي ، لا جرأ أحد منهم على لمسي ، أدخلت
الثلاجة وفتحت لي أبوابها , حملني اثنان وعن العربة أنزلوني , وفي الدرج
الأول تركوني , مكان ضيق كأنه لحد .
أغلقوا علي إغلاقاً محكماً , ثم أقفلوها خارجين و إلي أعمالهم عائدين ,
أطفئوا الأنوار , زاد برد الثلاجة , كل ما فيها أناس صامتون , جيران لا
يتكلمون, لا نفس فيسمع , ولا داعي فيجاب ,كنت أمر بقرب هذا المكان لا
أستطيع النظر إليه خوفاً منه وها أنا اليوم أودع فيها , يالها من نهاية ,
وما هي إلا لحظات وإذا بأبواب تُفتح , ضجيج وأصوات عالية , ومن بينهم صوت
يقول : أنا أغسله , وآخر أنا أكفنه .
أخرجوني من درجي ووضعوني على مكان غسلي , كأنهم خائفون مني , خلعوا ملابسي وستروا عورتي , صبوا
الماء فوق رأسي وغسلوني , قرَّبوا الأكفان ونشروها ثم طيَّبوها , حملت بين
أيديهم ألقوني بينها , بدأوا بتغطية وجهي , أوثقوني بالأربطة , ما أشده
وأظلمه من غطاء , قبَّلني أبي وأخي , واستدعيت أمي فلم تتمالك نفسها , حنت رأسها عليَّ وقبَّلتني .
تركوني في ناحية المسجد وحيداً , انتهت الصلاة وتداعى أحبتي : إلينا بعبد
الله فاحملوه وللصلاة قرِّبوه , حُملت بين الأيدي , ورفعت على الأعناق صلى
الناس وخرجوا.
حُملت على الأكتاف تتبعني الدعوات : اللهم ثبَّته عند السؤال , أين أصبح
أصحابي يا أحبابي , دعوني معكم ولو ليلة , أترمون بي ؟! قد كنت لكم خادماً
أخاً صادقاً , أفي حفرة تودعونني ؟ ضاعت هداياي لكم وخدماتي ,كم ليلة
سامرتكم أضحكتكم صدق فيَّ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم , حديث قد طرق
سمعي لكني لم أعره بالاً , تذكرت قوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا وضعت
الجنازة واحتملها على أعناقهم , فإن كانت صالحة قالت : قدِّموني قدَّموني ,
وإن كانت غير صالحة قالت : يا ويلها أين تذهبون بها , يسمع صوتها كل شيء
إلا الإنسان ولو سمعها لصُعق )) [ رواه البخاري والنسائي والبيهقي وأحمد ] .
تنادي جنازتي : دعوني ... دعوني ... أعرف ما أمامي , إنها أشرطتي وأفلامي, أنزلوني ... أنزلوني .
أما تسمعون ندائي ... لا أحد يبالي ... وضعوني على شفير القبر وحافته , أرى قبري يُحفر أمامي . يا أبي أتحفر لي لتواريني ،
أنظر إلي قبري كأني أعرفه موحش , مظلم , مقفر. آه ... يا إلهي ما أوحشة ,
طين وتراب , صخور كبيرة تكتم الأنفاس ، هاهم انتهوا وللطين قربوا ,
نادوا إلينا بالجنازة , حملها الأقربون مسرعين ينتحبون , بكاؤهم يزيد
يعلمون أني مغيب إلى مدى بعيد , أنزلوني , استقبلني أبي وأخي الأكبر ,
وسدُّوا لي التراب , وضعوا جنبي بين اللحود . عندها ودَّعت الدنيا . وداعاً
أيتها الشمس , آه ... أيها الظلام , حلوا رباط أكفاني , قبَّلني أبي ودعا
لي , نادوا باللحود حجارة كبيرة وضعوها فوق رأسي على رجلي وغطوا جسدي ,
أصيح فلا مجيب , أيها الناس أغلقتم منافذ الهواء , فإذا بالنداء لا يقرع
إلا آذاناً صماء . زادوا علي التراب , تراب فوق تراب , الكل يحثو حتى ردموا
الحفرة وأغلقوا معها آخر أنفاس الحياة , تهيأوا للرحيل..
ذهبوا وأبقوني وحيداً , ذهبوا وتركوني أسامر الدود , استقبلني القبر بضمته , واللحد بغمته , أخذ التراب ينهال على وجهي ,
كفى أيها المستقبلون, أهكذا تستقبلون ضيفكم: ردَّ القبر بصوت مرعب : أما
سمعت في الدنيا ندائي (( ما من يوم يطلع فجره إلا وينادي القبر : أنا بيت
الظلمة , أنا بيت الوحشة , أنا بيت الدود , اسمع إلى ترحيبي : إذا وُضع
العبد الفاجر في جوفي قلت له : لا أهلاً ولا مرحباً , أما والله قد كنت
أبغض من يمشي على ظهري , إلي فقد وليتك اليوم فسترى صنيعي بك . فأضمه ضمة
حتى تختلف أضلاعه , ثم يوكل به سبعون تنيناً ينهشونه ويخدشونه حتى يفضى به
إلى الحساب )) [ كما في سنن الترمذي ] .
هذا هو ندائي أما سمعت به ؟! نعم قد سمعته وطرق أذني , ولكني تباعدت اللقاء
بل تناسيته . أمهلني أيها القبر لأعود . انتهرني قائلاً : تعود , كلا قد
فات الآوان .
عندها دبَّ الدود على وجهي وبدأ يأكل أكفاني , صحت بأعلى صوتي : آه . آه لو أعود . آه . آه لو أعود .
استيقظ أبي وفتح باب غرفتي : بُنيّ ما بك ؟ أبي ... أمي ... آه لو أعود .
بنيَّ من أين تعود ؟ أنت في البيت , تعلقت به يا أبي أنقذني , أبعد الدود عن وجهي.
بنيَّ لا تخف أنت في بيتك , تجمع إخواني أنا في صيحة واحدة : آه لو أعود . أضاءوا الأنوار وإذا بي بينهم ..
تلمست أيديهم , عندها أدركت أنني لازلت على قيد الحياة .
آه يا لله ! يا له من حلم ... ما أبشعه , بل وأوحشه , قد هزَّ كياني أرعبني
ومن الآخرة أدناني , جلست على فراشي , ها أنت يا عبد الله في مهلة إذاً
فاعمل .
تذكرت الربيع بن خيثم وقبره : حفر له قبراً داخل بيته فكان إذا مالت نفسه
إلي الدنيا نزل في قبره , وإذا ما رأى ظلمة القبر ووحشته صاح { رَبِّ
ارْجِعُونِ } فيسمعه أهله فيفتحون له , وفي ليلة نزل قبره وغطى بغطائه .
فلما استوحش داخله نادى { رَبِّ ارْجِعُونِ } فلم يسمع له أحد . وبعد زمن
طويل , سمعته زوجته ، فأسرعت إليه وأخرجته . فقال عند خروجه : ( اعمل يا
ربيع قبل أن تقول رب ارجعون فلا يجيبك أحد ) [ صلاح الأمة في علو الهمة ]
عرفت أنه لا طريق للنجاة إلا طريق الاستقامة .
كسرت أشرطتي , وحرقت مجلاتي , جددت استقامتي البالية , قطعت حبل كل ودٍّ بزملائي القدامى, واتجهت إلى ربي : إليك ربي , إليك ربي .
فكلما نويت بمعصية تذكرت تلك الرحلة التي رحلتها , فوالله بعدها ما هممت بمعصية ..